بصرف النظر عن مدي ضحالة والتواء المضمون الفكري لقوى الإسلام السياسي، إلا أنها تقدم للناخب تصورا عن أصل مشكلاته المزمنة وسبل الخروج منها
قدمت القوى السياسية التي تُعَرِّف نفسها بأنها ليست من تيارات الإسلام السياسي ولا من النظام القديم تجربة فريدة من نوعها في محاولة الاتحاد والاصطفاف بعد الانتخابات الرئاسية التي كشفت عن أمور عدة فيما يخص ميول وانقسامات الكتل التصويتية في مصر. فبينما اتفق الجميع علي ضرورة الاتحاد في كيان يواجه الاستقطاب الذي نتج عما بدا من انحصار الصراع بين القوتين التقليديتين، تعددت الكيانات التي تدعي لنفسها حق التمثيل الحصري لهذا القطاع العريض.
فوضع الذات قبل الفكرة، والارتباط بالهوية الشخصية أو الطائفية الضيقة في مقابل المصلحة العامة الرحبة، هي كلها من آفات ما بعد الاستعمار التي عانت منها شعوب عدة ولم تسلم منها مصر.
بل إن الجهود الساعية للتوحد في كيان كبير قد أدت إلي مزيد من الانقسام، فأسفرت دعوات الاصطفاف في كيان واحد إلي نشأة ثلاثة كيانات علي الأقل، وهي: التيار الثالث الذي نتج عن محاولات التنسيق بين عدد من الاحزاب والحملات القائمة، التيار الشعبي المنبثق عن حملة دعم حمدين صباحي رئيسا للجمهورية، وحزب الدستور الذي يؤسسه الدكتور محمد البرادعي وعدد من النشطاء والشخصيات العامة.
تلك الآفة المستعصية التي من أعراضها التشرذم والعجز عن العمل المنظم تنبع في تقديري من علتين وثيقتي الصلة: أولا التضخم المَرَضي للذات لدى الرموز السياسية والفكرية البارزة إعلاميا، وثانيا انعدام الفكرة الجامعة الجاذبة التي تتجمع حولها العقول وتحتشد لأجلها الجموع. أولي هاتين الآفتين، ألا وهي الذاتية المفرطة، عادة ما يتم التعامل معها باستهانة وتسرع كأن مناقشتها من قبيل ثرثرة المقاهي ولا ترقى لمرتبة التحليل السياسي الاجتماعي المؤثُّر.
وهذا في نظري خطأ عظيم، فوضع الذات قبل الفكرة، والارتباط بالهوية الشخصية أو الطائفية الضيقة في مقابل المصلحة العامة الرحبة، هي كلها من آفات ما بعد الاستعمار التي عانت منها شعوب عدة ولم تسلم منها مصر، وهي لذلك ليست أقل أهمية من أزمات الكهرباء والبنزين، والجمعية التأسيسية للعبث بالدستور، وفضائح اللجنة الأولمبية.
إذا استمرت تلك الأحزاب في إضاعة الفرص السياسية عن طريق فشلها في وضع الأفكار قبل الأشخاص والخروج من معضلة الذاتية والاستعلاء، فلن يكتب لمصر خروج من بين رحي النظام القديم والتيارات الإسلامية في القريب العاجل.
تمثلت أقوي وأخطر تجليات هذا المرض في قادة حركات التحرر وورثتهم من الحكام الذين أبقوا علي كافة سبل التفرقة والظلم والقهر التي صنعتها التجربة الاستعمارية، كما تتجلي بصورة أقل حدة في النخب السياسية والفكرية التي – وإن حرصت علي نقد كافة أشكال الاستعمار والاستشراق والعنصرية – عجزت عن التخلص من النزعات الاستعلائية التي رسخها الاعتقاد الساذج بالأفضلية غير المشروطة للتجربة الفردية الليبرالية العقلانية للغرب.
الإعجاب بالذات وفقدان الفكرة الجامعة هي أولي الخطوات نحو الانفصال عن المجتمع بوجه عام والكتل التصويتية الأساسية بوجه خاص. ولقد تفضل كل من الأستاذين نجيب ساويرس وعلاء الأسواني خلال الأسابيع المنقضية فقدما لنا من خلال سجالهما عبر صفحات الجرائد نموذجا حيا لكافة عيوب النخب السياسية الإعلامية التي برزت علي سطح الحياة العامة المصرية أثناء وبعد الثورة، وهي عيوب تتلخص في الاستعداد لتكريس الجهود والطاقات ومساحات الصحف لإثبات مواقف ومزايدات لا تمت لمشكلات المواطن بصلة.
ولسنا بحاجة إلي قوة ملاحظة استثنائية لكي نري بوضوح آثار تلك الأعراض علي الغالبية العظمي من الأحزاب المصرية باستثناء المنتمية منها للتيار الإسلامي، فكل حزب من تلك الأحزاب إما قد تأسس منذ بدايته اعتمادا علي شعبية شخص بعينه، أو علي أقل تقدير صار له نجم أوحد لا منافس له. وليس هناك شك في أن مبادرات التيار الشعبي ومصر القوية وحزب الدستور قد فشلت حتي هذه اللحظة في التخلص من آفة النجم الأوحد المستعصية.
الوجه الآخر لتلك المعضلة هو انعدام المضمون الفكري السياسي الجاذب للناخب وثيق الصلة بهموم المواطن اليومية. فمن عجائب الأمور أن تصنف تلك المبادرات نفسها بالأساس استنادا لرفض قطاع عريض من الناخبين للقوتين التقليديتين، وليس انطلاقا من اعتناقها لمشروع اجتماعي سياسي مقنع للناخب متفاعل مع معاناته وطموحاته. وبصرف النظر عن مدي ضحالة والتواء المضمون الفكري لقوى الإسلام السياسي، إلا أنها تقدم للناخب تصورا عن أصل مشكلاته المزمنة وسبل الخروج منها، يتلخص هذا التصور في أن الفقر والبؤس سببهما خراب الذمم الناتج عن البعد عن الدين وإقصاء الشريعة، وبالتالي فإن الحل ببساطة هو أن يصل المتدينون للحكم فيمكنون الدين والشريعة وبالتالي ينتهي البؤس والفقر. وعلي الرغم من المغالطات الجمة في هذا الطرح – والذي شرحتها في مقالتين سابقتين بعنوان "معضلات الشريعة والتشريع" – إلا أنه يتمتع ببساطة وسلاسة تؤدي إلي رواجه ونجاحه كتصور انتخابي.
فكل حزب من تلك الأحزاب القائمة إما قد تأسس منذ بدايته اعتمادا علي شعبية شخص بعينه، أو علي أقل تقدير صار له نجم أوحد لا منافس له.
أما كل تلك التيارات "الثالثة" التي لا هي إسلامية ولا منتمية للنظام السابق – علي الرغم من انفتاح الشارع السياسي المصري علي مصرعيه واستعداده لمساندة قوي جديدة – فإنها للأسف تكتفي بالتسفيه من خطاب التيارات الأخري وإقرار تفوقها الفكري، دون بلورة تلك الأفكار في خطاب واضح يجذب إليه المواطن المصري المتعطش لبديل حقيقي للثنائية الخانقة التي تعيشها مصر اليوم كما أوضحت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وإذا استمرت تلك الأحزاب في إضاعة الفرص السياسية عن طريق فشلها في وضع الأفكار قبل الأشخاص والخروج من معضلة الذاتية والاستعلاء، فلن يكتب لمصر خروج من بين رحي النظام القديم والتيارات الإسلامية في القريب العاجل.
هذا المحتوى من : أصوات مصرية
http://aswatmasriya.com/
طالب دكتوراة في أصول الفقه ونظرية القانون بجامعة كولومبيا.